19 - 10 - 2025

بين جدار الرفض الديني وصمت الدولة وآلاف القصص التي لم تكتمل | الزواج المدني الممنوع في مصر

بين جدار الرفض الديني وصمت الدولة وآلاف القصص التي لم تكتمل | الزواج المدني الممنوع في مصر

- الأزهر يعتبره تهديدا لهوية المجتمع وفتح لباب الفوضى الأخلاقية
- الكنيسة الأرثوذكسية: الزواج المدني عقد قانوني لا قيمة له أمام الله

في شوارع القاهرة والإسكندرية ومدن الصعيد، يعيش آلاف الشباب والفتيات على أمل مؤجل، لا هم قادرون على إتمام زواج يحلمون به.. ولا المجتمع والدولة يمنحانهم الحق في اختيار شكل العلاقة التي تناسبهم.. السبب بسيط في ظاهره لكنه شديد التعقيد في عمقه: غياب قانون يعترف بالزواج المدني في مصر، بين رفض الأزهر من ناحية ورفض الكنيسة من ناحية أخرى، يتجمد مصير بشر لا يملكون سوى أن ينتظروا، أو أن يلتفوا على القانون بطرق ملتوية أو أن يهاجروا إلى بلد اخر يعترف بحقهم في ان يحبوا ويتزوجوا وفق قناعاتهم..

المعضلة هنا ليست ترفا فكريا ولا نقاشا نخبويا، بل قضية تمس الحياة اليومية، وتضع الاف المواطنين في مأزق وجودي بين الحب والهوية، وبين القانون والدين، وبين ما يريدونه وما يسمح لهم به..

- حكايات مؤجلة

منال ( اسم مستعار)  شابة في بداية الثلاثينات ارتبطت بشاب مسلم وهي مسيحية.. تقول: أنا وهو عايشين قصة حب بقالها ست سنين.. لكن ما ينفعش نتجوز لا الكنيسة هترضى ولا الأزهر عنده حل لينا، كل اللي نقدر نعمله إننا نعيش في سرية أو نهاجر، لكن ليه؟ ليه نتحرم من حقنا الطبيعي؟

منال ليست وحدها، محمود ( اسم مستعار) 29 سنة مسلم سني أحب فتاة شيعية أثناء دراستهما بالخارج، عاد الاثنان إلى مصر حاملين أحلام الزواج، لكن عائلتيهما رفضتا بشدة ولم يجد القانون منفذا لتوثيق عقد مدني يرضي الطرفين. اما أن تتحول الفتاة إلى المذهب السني لنتزوج، بما يرفضه أهلها أو أن نفترق، "كأن الدولة تقول لنا الحب مش ليكم" يقول محمود بمرارة..

وفي حالات أخرى يكون الطرفان من طوائف مسيحية مختلفة، فيتعطل الزواج لأن الكنيسة لا تسمح بعقود مختلطة بين الأرثوذكس والكاثوليك أو البروتستانت، هذه التعقيدات تضع مئات القصص في خانة المستحيل فيتجه البعض إلى الزواج العرفي أو إلى السفر لقبرص واليونان لعقد زواج مدني هناك ثم العودة لمحاولة إثباته في مصر..

- موقف الأزهر: انفصال عن هوية المجتمع..

الأزهر باعتباره المرجعية الإسلامية الكبرى في مصر أعلن أكثر من مرة رفضه لفكرة الزواج المدني، يرى أن الزواج عقد شرعي لا يقوم إلا بشروط محددة، أهمها الولي والشهود وتوثيق العقد وفق الفقه، وأي عقد مدني مستقل عن هذه الشروط يعتبر باطلا..

في أحد تصريحاته قال عضو هيئة كبار العلماء: الدعوة إلى الزواج المدني تستهدف سلخ المجتمع عن هويته الإسلامية..

من وجهة نظر الأزهر الزواج المدني ليس مجرد إجراء إداري، بل خطر على الأسرة المسلمة وفتح لباب الفوضى الأخلاقية..

الكنيسة: لا قيمة له أمام الله

الكنيسة الأرثوذكسية من جانبها تتبنى موقفا أكثر صرامة.. فالزواج المسيحي سر مقدس لا يتم إلا في الكنيسة وبين طرفين من نفس المعتقد ومن ثم، ترفض الكنيسة الاعتراف بأي زواج مدني يتم خارجها، وتعتبره باطلا دينيا..

أحد الكهنة أوضح الأمر بقوله: الزواج المدني ليس زواجا مسيحيا، بل عقد قانوني لا قيمة له أمام الله..

وفي حالات كثيرة من يحاول الالتفاف على هذا الوضع بعقد مدني في الخارج يجد نفسه مرفوضا داخل كنيسته بل وأحيانا يحرم من الأسرار الكنسية..

بين الدين والقانون

المعضلة الأكبر أن الدولة المصرية لم تضع إطارا قانونيا يتيح الزواج المدني كخيار بديل.. قوانين الأحوال الشخصية الحالية تنظم الزواج والطلاق والميراث على أساس ديني: المسلمون يحتكمون للشريعة.. والمسيحيون للوائح كنسية مثل لائحة 1938 .. لكن هذه القوانين لا تتسع للحالات المختلطة أو لمن يرفض الزواج الديني أصلا..

المحامي الحقوقي أحمد صبري يوضح: المجتمع متنوع.. فيه مسلمين ومسيحيين وبهائيين ولا دينيين.. لماذا يجبر الجميع على الزواج وفق رؤية دينية واحدة؟ الدولة من واجبها أن توفر خيارا مدنيا يضمن الحقوق.. ويترك للناس حرية الاختيار..

في ديسمبر 2021 أصدرت إمارة أبوظبي القانون رقم 14 لعام 2021 لتشريع الزواج المدني للأجانب وغير المسلمين وأنشأت محكمة الأسرة المدنية الأولى من نوعها في المنطقة.. القانون دخل حيز التنفيذ في يناير 2022 ثم توسع نطاقه ليشمل الإمارات كافة..

وبحسب الإحصاءات الرسمية جرى تسجيل أكثر من 36 ألف عقد زواج مدني حتى نهاية 2024 منها 8 آلاف عقد في النصف الأول من ذلك العام وحده، هذه الأرقام تعكس إقبالا واسعا.. خصوصا بين المقيمين الأجانب..

تجربة أبوظبي أثبتت أن الزواج المدني يمكن أن يعمل جنبا إلى جنب مع الزواج الديني دون أن يلغيه أو يحل محله، لكنه يوفر ببساطة خيارا قانونيا يحترم التعددية ويمنح الحقوق..

حرية شخصية أم تهديد للهوية؟

خصوم الزواج المدني في مصر يرون أن المسألة ليست مجرد حرية شخصية، بل قضية تمس هوية المجتمع الدينية.. بعض علماء الدين يؤكدون أن الاعتراف به هو إقرار ضمني بالعلمنة وفتح لباب التفكك الأسري..

لكن في المقابل يرى الحقوقيون أن ربط الزواج بالمؤسسات الدينية وحدها يعني حرمان مواطنين من أبسط حقوقهم، الدولة المدنية الحديثة، كما يقولون، لا تفرض على الناس عقيدة معينة، بل تحمي حقوقهم بصرف النظر عن دينهم..

أطفال بلا هوية.. نساء بلا حقوق

الفراغ القانوني الناتج عن غياب الزواج المدني لا يظل حبا معلقا فقط، بل يمتد ليخلق أزمات أشد قسوة.. بعض الأطفال يولدون بلا نسب ثابت لأن زواج ابائهم لم يعترف به، نساء يجدن أنفسهن بلا حق في النفقة أو الميراث لأن عقود زواجهن غير موثقة رسميا..

المحامية نجلاء سلامة المتخصصة في قضايا الأحوال الشخصية، تروي أنها استقبلت عشرات الحالات من نساء عشن سنوات في زواج عرفي غير موثق، لأن القانون لم يفتح أمامهن بابا مدنيا، وعندما انهارت العلاقة وجدن أنفسهن بلا سند قانوني.. النتيجة كانت مأساوية، لا حقوق مالية ولا نسب واضح للأبناء ولا حتى إمكانية رفع قضايا أمام المحاكم بسهولة..

تجارب مقارنة

في لبنان رغم أن الزواج الديني هو السائد فإن أي زواج مدني يتم في الخارج يعترف به قانونياً عند العودة.. هذا الحل الجزئي وإن لم يوفر خيارا محليا.. لكنه على الأقل يفتح نافذة قانونية.. كثير من المصريين يلجؤون إلى قبرص واليونان لعقد زواج مدني وتسجيله لاحقا في مصر، لكنهم يواجهون أحيانا صعوبات في اعتراف الكنيسة أو الأزهر به..

- هل يمكن أن يتكرر نموذج أبوظبي في مصر؟

سؤال يفرض نفسه: هل يمكن لمصر أن تسلك طريقا مشابها؟ أستاذ القانون الدستوري الدكتور حسام بدوي يرى أن الأمر ممكن لو تم التعامل معه بشكل اختياري لا إجباري.. يقول: الدولة ليست مطالبة بإلغاء الزواج الديني أو تهميشه.. الفكرة أن يكون هناك مسار مدني مواز متاح لمن يريده.. هذا يحترم مبدأ المواطنة المتساوية دون المساس بالتقاليد الدينية لمن يتمسكون بها...

ويضيف: القانون المدني في الزواج لن يغير عقائد الناس، لكنه سينقذ حياة آلاف البشر من التعليق في المجهول، وسيضمن حقوق النساء والأطفال..

بين رفض الأزهر والكنيسة وصمت الدولة، يعيش آلاف المصريين مأزقا حقيقياً.. الزواج المدني في مصر ليس رفاهية فكرية.. بل قضية حياة تمس حقوق الإنسان والحرية الفردية واستقرار الأسرة..

تجربة أبوظبي أثبتت أن تطبيق الزواج المدني في بيئة عربية ومسلمة ممكن وفعال دون أن يلغي الزواج الديني أو يهدد المجتمع.. لكن في مصر سيبقى السؤال مفتوحا: هل من حق الفرد أن يختار شكل زواجه، أم يظل هذا الحق مرهونا برضا المؤسسات الدينية وحدها؟
--------------------------
تحقيق: مادونا شوقي
من المشهد الأسبوعية

الزواج المدني الممنوع في مصر